آخر تحديث :الإثنين-31 مارس 2025-08:55م

عدن والإقصاء المتجدد: هل يعيد الجنوب أخطاء الماضي؟

الجمعة - 28 مارس 2025 - الساعة 08:47 م
فضل علي مندوق

بقلم: فضل علي مندوق
- ارشيف الكاتب


بقلم: م/فضل علي مندوق


وسط التحولات السياسية المتسارعة التي تشهدها مدينة عدن، يبرز سؤال جوهري: هل استطاعت المبادرات السياسية الراهنة تحقيق تمثيل حقيقي يعكس تطلعات سكان المدينة، أم أنها مجرد امتداد لأنماط تقليدية تعيد إنتاج المشهد ذاته بوجوه وشعارات جديدة؟ لا تزال عدن، بتاريخها السياسي الحافل، مركزًا لصراعات النفوذ ورهانات التغيير، ما يجعل البحث في طبيعة هذه التحديات أمرًا ضروريًا لفهم أعمق لمستقبلها السياسي. وعليه، تتطلب هذه القضية تحليلًا دقيقًا للعوامل المؤثرة في صياغة المشهد الراهن، مع استقراء آفاقه وإمكانات التحول فيه.

في ستينيات القرن الماضي، كانت عدن تشهد مخاضًا ثوريًا استثنائيًا، حيث تحولت من ميناء استعماري إلى بوتقة انصهرت فيها أحلام التحرر الوطني. الثوار الذين خرجوا من تحت ركام الفقر والاستغلال لم يحملوا بنادقهم ضد المستعمر البريطاني فحسب، بل ضد نظام قبلي متوارث رأوا فيه امتدادًا للتخلف والاستبداد. كانت تلك الثورة محاولة جادة لقلب الطاولة على منطق السلطة الأبوية، التي حولت الإنسان إلى رقم في معادلة الزعامات التقليدية. لكن اليوم، وبعد عقود من تلك الملحمة، يبدو أن دوامة التاريخ تدور في حلقة مفرغة، حيث تُستعاد رموز الماضي تحت عباءة الحداثة السياسية.

شعار "الجنوب لكل أبنائه" الذي يرفعه المجلس الانتقالي يبدو في ظاهره نداءً مصلحيًا، لكن الممارسات على الأرض تكشف عن تناقض صارخ. فتشكيل اللجان التحضيرية لمجلس الشيوخ، والتي تستثني بشكل لافت أبناء عدن، يعيد إنتاج نفس الإشكالية التاريخية: صراع المركز والأطراف، أو بالأحرى صراع النخب الجديدة مع تراث المدينة الحضري المختلف. إن استبعاد المكون العدني، الذي كان دائمًا حاضنة للمشروع التحديثي، يشبه محاولة كتابة ملحمة وطنية بحذف أحد أبطالها الرئيسيين.

المفارقة تكمن في أن الذين يُستعادون اليوم تحت مسمى "شيوخ الجنوب" هم امتداد رمزي لتلك التركيبة الاجتماعية التي ثارت عليها المدينة ذات يوم. ليست المسألة هنا تتعلق بأشخاص معينين، بل بمنطق سياسي يعيد إنتاج علاقات القوة القديمة تحت مسميات جديدة. إن إعادة إحياء مجلس الشيوخ بتركيبته القبلية التقليدية يشبه محاولة إلباس الجسد الحديث ثيابًا بالية من متحف التاريخ. فكيف لمدينة مثل عدن، التي كانت مركزًا للتجارة العالمية ومنارة للفكر التقدمي، أن تقبل بعودة نظام الزعامات الذي قضت عليه ثورتها؟

الغضب العدني الذي يعبر عن نفسه اليوم ليس رفضًا للجنوب أو لوحدته، بل هو صرخة ضد الاستنساخ الممنهج لسياسات الإقصاء. عندما تُختزل التمثيلية السياسية في الأسماء العائلية والرتب التقليدية، فإن ذلك يشكل إهانة لتضحيات جيل كامل حلم بجنوب يعتمد على الكفاءة لا على النسب. إن معايير تشكيل اللجان التي تعتمد على الانتماءات القبلية والمناطقية تذكرنا بآليات النظام السابق الذي حول الولاءات إلى عملة سياسية يتاجر بها المتنفذون.

لا يمكن فصل هذا الإقصاء عن السياق الأوسع لصراعات الهوية في الجنوب. فعدن، بتركيبتها الحضرية المتعددة الأعراق والثقافات، كانت دائمًا تمثل تحديًا للهوية الأحادية التي تحاول بعض القوى فرضها. استبعادها اليوم هو محاولة لترسيخ رواية أحادية للجنوب، تهمش التنوع الذي كان ولا يزال مصدر قوته. إن محو الذاكرة الحضرية لصالح الرواية القبلية ليس إلا شكلًا من أشكال العنف الرمزي الذي تمارسه النخب الجديدة ضد تاريخ لا يتوافق مع سردياتها الضيقة.

المقارنة التي يطرحها البعض بين الحكم الحالي ونظام علي عبدالله صالح ليست مجرد شعارات عاطفية، بل تستند إلى تشابه في الآليات. فكما كان النظام السابق يلعب على وتر الانقسامات المناطقية والقبلية لإدارة الصراعات، نرى اليوم نفس الأدوات تُستخدم لتحقيق التوازنات السياسية. الفارق الوحيد أن الأمس كان يستخدم العصبية المناطقية لخدمة السلطة المركزية، بينما اليوم تُستخدم لخدمة مشاريع لا مركزية تفتقر إلى الرؤية الموحدة.

لكن هذا النقد لا يعني إلغاء الشرعية التاريخية للمطالب الجنوبية، بل هو محاولة لإنقاذها من التحول إلى نسخة مشوهة من ذاتها. إن معاناة أبناء عدن اليوم ليست سوى حلقة في سلسلة المعاناة التي يعيشها كل الجنوبيين تحت وطأة الصراعات السياسية. الاستثناء العدني في الإقصاء هو مجرد تعبير عن أزمة أعمق في فهم مفهوم التمثيل السياسي، الذي ما زال يراوح بين منطق الثورة ومنطق الموروث.

في هذا السياق، يصبح نداء الإنصاف التاريخي ليس مجرد استعادة للحقوق، بل إعادة تعريف للهوية الجنوبية نفسها. هل نحن أمام مشروع تحرري يتبنى قيم المواطنة المتساوية، أم أننا نعيد إنتاج الأنماط الهرمية القديمة تحت شعارات براقة؟ الإجابة على هذا السؤال ليست مسؤولية النخب السياسية وحدها، بل هي مسعى جماعي يتطلب مراجعة جريئة لتراثنا النضالي.

التحدي الأكبر الذي يواجه الجنوب اليوم هو كيفية الخروج من ثنائية الثورة والردة. فكما أن الثورة الستينية لم تستطع القفز فوق واقعها الاجتماعي، فإن المحاولات الحالية لبناء كيان سياسي لن تنجح إلا باحتضان كل مكونات الجنوب، بما فيها تلك التي تتحدى الأنماط التقليدية. إن مستقبل الجنوب لا يمكن أن يُبنى على إقصاء مدينة كانت ولا تزال قلب النبض الحضاري لهذه الأرض. فعدن ليست مجرد جغرافيا، إنها فكرة عن التعددية والانفتاح، عن جنوب قادر على احتواء تناقضاته بدل اختراع أعداء من داخله.

في الختام، فإن الدعوة إلى إنصاف تاريخ عدن ومناضليها ليست مطالبة فئوية، بل هي شرط أساسي لتحقيق المشروع الجنوبي الذي يحلم به الجميع. فالشجرة التي تقطع جذورها بحثًا عن النقاء لن تعيش طويلاً، وكذلك أي مشروع سياسي يحاول بناء نفسه على محو ذاكرة جزء من جسده. آن الأوان ليعي الجميع أن ظلم أبناء عدن اليوم ليس إلا امتدادًا لظلم الجنوب كله لنفسه، وأن التحرر الحقيقي يبدأ عندما تتسع القلوب كما تتسع الأرض لكل أبنائها.