في هذه الحلقة يكشف الرئيس الأسبق علي ناصر محمد ان الجنوبيون حاولوا تغيير نظام صنعاء من معاشيق، وتحقيق الوحدة اليمنية ولو بقوة السلاح والحرب.. ونترك الحديث للرئيس ناصر الذي قال في حديثه:"واظب دعاة الوحدة القسرية على انتهاج الأسلوب عينه، وهاجسهم الإيمان بأنّ "الحرب هي الطريق إلى الوحدة". واستمر الإعداد لما سُمي "الانتفاضة"، واستمرار مناقشة هذا الموضوع دلالة على جدية مسعى من كان يروّج له. وفي رأيي ــ ولو أدليتُ به في وقت متأخر ــ أنّ هؤلاء لم يكونوا يقفون على أرض صلبة ويخشون على سلطتهم، لأنّ "الانتفاضة" لم تكن لها أدنى أهمية استراتيجية للجنوب. لقد عُقدت سلسلة اجتماعات للمكتب السياسي لتنظيم الجبهة القومية في شباط/ فبراير 1978م في منزل عبد الفتاح إسماعيل بحضور قيادات من المعارضة الوطنية في صنعاء، ووصل الأمر إلى حدّ تكليف عبد الفتاح إعداد كافة القرارات والبيانات الخاصة بـ"الانتفاضة" وتشكيل مجلس قيادة الثورة، وتسمية رئيس الدولة. ولكن، هنا دبّ الخلاف: من سيرأس الدولة، دولة الوحدة؟
لماذا لا يكون الرئيس زيدياً
وأضاف الرئيس ناصر قائلا:"كان رأي عبد الفتاح أن يكون الرئيس "زيدياً"، وهنا سأل جاعم صالح (عضو المكتب السياسي المرشح) ساخراً: "لماذا لا يكون الرئيس هو الفنان اليمني محمد عبده زيدي؟" ولم يكن يستخف بالفنان زيدي، بالطبع، بل كان يردّ بسخرية على منطق عبد الفتاح الذي فاجأنا. لم يكتب لهذا المشروع النجاح، لعدم واقعيته، ولأنه كان جزءاً لا يتجزأ من مشاريع المراهقات وعدم النضج الحزبي والسياسي معاً، لأنه لم يكن ممكناً تغيير النظام في صنعاء من قلعة معاشيق في عدن حيث كان يقيم عبد الفتاح، أو حتى من معسكر العند، ولم يتوقف التفكير في هذا الموضوع والعمل من أجله بعد أحداث سالمين عام 1978م.
حرب فبراير 1979م
وواصل الرئيس ناصر حديثه وقال:" كان هناك تيار واسع يعارض الحرب، ولكن وزير أمن الدولة "محسن"، ووزير الدفاع صالح مصلح، أقنعا الرئيس عبد الفتاح في بداية شباط/ فبراير بأنّ الوضع خطير، وأنّ أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، وحاولا إقناع بقية أعضاء المكتب السياسي بذلك أيضاً، وكان ردّنا أنّ الوضع في غاية الدقة ويحتاج إلى دراسة متأنية وتفكير معمّق في المقدمات، كما العواقب والنتائج. وفيما وصل الأمر بالرئيس عبد الفتاح إلى حدّ القيام بجولة عربية مطلع عام 1979م شملت الجزائر وسورية وليبيا والعراق، طالباً مساعدات لإسقاط النظام في صنعاء وتحقيق الوحدة اليمنية، رأى "محسن" وصالح مصلح أن "ضربة واحدة تكفي لفك الحصار عن جبل مريس" (كان ثمة أناس محاصرون)، وذلك باستخدام أسلحة خفيفة، مثل مدافع عيار 130 بدل 160ملم، وطائرات صغيرة. ولذلك ستكون هذه الحرب حرباً خفيفة. (وكأنّي بهما اعتقدا أنّ هذه التسميات تدل على معناها حقاً). وأذكر أني قلتُ لعبد الفتاح إنّ هذه المعركة ستكون حرباً حقيقية طاحنة، ولا يعرف أحد نتائجها، وقد سخرتُ من فكرة الضرب بالطائرات الصغيرة، وسألتهم: هل تعتقدون أنهم سيضربون بالبوينغ؟ ولكن، ها هي ذي الحرب تندلع، رغم هذه التحذيرات والمخاوف والموقف السياسي والعسكري يتعقّد، وتقف ضدنا أغلبية الدول، عربياً ودولياً، حتى إنّ الرئيس السوفياتي ليونيد بريجينيف بعث بثلاث برقيات يدعو فيها إلى وقف الحرب والأعمال المتهورة، لكونها تخدم الرجعية والإمبريالية وتهدد السلام والأمن في المنطقة، مطالباً الرئيس عبد الفتاح إسماعيل بالانسحاب.
وعلى الصعيد العسكري بدأت الذخيرة تنفد، وكان لا بدّ من إيجاد مخرج، فعقدنا اجتماعاً عاجلاً للجنة المركزية لمعالجة الوضع، فيما بعث صالح مصلح وصالح بن حسينون ــ وكانا ضد وقف الحرب ــ برسالة خطيرة يقولان فيها: "نحن لا نخاف اللواء السابع المدرع المتقدم من الشمال، والمجهز بأحدث الأسلحة، ولكننا نخاف اللواء الثامن الموجود في "معاشيق" حيث منزل عبد الفتاح". عدّل عبد الفتاح موقفه من الحرب بعد الضغط السوفياتي والأميركي والعديد من الضغوطات العربية وتصريح وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام الحاسم والتحذيري "بأننا لن نسمح بإسقاط صنعاء" . أما تقدير بعض القوى السياسية والعسكرية للحرب، فكان أنها ترى "أنّ صنعاء لن تسقط إلا من داخل أسوارها".
مشايخ وقبائل صنعاء إلى عدن
وسترسل الرئيس ناصر في حديثه وقال:" وكان قد سبق حرب فبراير 1979م وصول آلاف السيارات من الشمال، وعليها عشرات الآلاف من المشايخ والقبائل، في طريقهم إلى عدن، دعماً لموقفها. خرجت الجماهير للترحيب بقدومهم منذ مغادرتهم العبر (التي تقع بالقرب زمخ ومنوخ والوديعة بأعالي وادي حضرموت على مشارف الربع الخالي) حتى وصولهم إلى مدينة عدن التي احتضنتهم كما احتضنت آلاف اليمنيين القادمين من كل المدن اليمنية في كل مراحل التاريخ، وفي مقدمتهم أحمد محمد النعمان، ومحمد ومحمود الزبيري، وسيف الحق إبراهيم بن يحيى حميد الدين، وزيد الموشكي، وأحمد محمد الشامي وغيرهم، ونُظِّم مهرجان جماهيري ضخم طالبوا فيه بتحقيق الوحدة اليمنية، وقد قدّمت عدن الأموال والسلاح إلى هؤلاء الذين قدموا إليها للالتحاق بالجبهة الوطنية والنضال من أجل إسقاط النظام في الشمال، وفتحت معسكرات للتدريب، وكانت الجبهة وقتذاك تسيطر على مناطق شمالية واسعة شاسعة يزيد عدد سكانها على سكان الجنوب. يجب أن نعترف بأنّ جزءاً من المال والسلاح ذهب إلى جيوب البعض، ولم يُحقق الهدف الذي صُرف من أجله.
المناطق الشمالية اكتوت بالحروب وحُرمت التعليم
وتابع الرئيس ناصر بقوله:" وكان الأهم من كل ذلك بالنسبة إليّ أن أُولي اهتماماً خاصاً بأبناء هذه المناطق الشمالية التي اكتوت بالحروب وحُرمت التعليم، ولهذا شجعنا أبناءهم على الالتحاق بمدارس البدو الرُّحل وشتى المدارس بمختلف مستوياتها في المحافظات والالتحاق بالجامعة. وخوفاً من أن يتسرب بعضهم ويعودوا إلى مناطقهم، أرسلنا المئات منهم في بعثات إلى الخارج، وتحديداً إلى كوبا التي يصعب العودة منها حتى تخرّجهم وعودتهم للالتحاق بمناطقهم كأطباء ومدرسين وغير ذلك. ومن هؤلاء مَن التحق بالكليات العسكرية، وكانوا من مناطق شمال شمال اليمن المعزولة والمحرومة التعليم، والتي كانت تعاني من الفقر والجهل والمرض. هذه المناطق التي صُنفت في الشمال بـ"المناطق المحرومة"، لم يُلتفَت إلى تخلّفها الشامل إلا في السنوات الأخيرة من حكم صالح، وقد مُنح أبناؤها أفضلية نسبية في الالتحاق بالتعليم الجامعي، ولكن الأمر توقف عند هذا الحد، ولم يتجاوزه إلى الخدمات الأخرى من صحة وتعليم وخلق فرص عمل وإدارة رشيدة.