في بلدٍ تتداخل فيه الجغرافيا مع التاريخ، وتتنوع فيه الثقافات بتنوع تضاريسه، وفي هذا السياق، يأتي كتاب "التراث الغنائي اليمني" للكاتب اليمني فؤاد الكريزي ليكون شاهداً على عراقة فنٍّ موسيقيٍّ ظل لقرونٍ وسيلةً للتعبير عن الهوية والانتماء. هذا الكتاب ليس مجرد توثيقٍ للألحان والأغاني، بل هو رحلةٌ في ذاكرة شعبٍ حفظ تاريخه عبر الأصوات والإيقاعات.
يستعرض الكتاب كيف ارتبطت الموسيقى اليمنية بالحضارات القديمة، مثل حمير وسبأ ومعين، حيث كانت الألحان جزءًا من الطقوس الدينية والاحتفالات المجتمعية. كما يوثق تأثير الطبيعة المتنوعة لليمن – من جبالها الشاهقة إلى سهولها الساحلية – في تشكيل أنماط موسيقية فريدة، حيث يقول الكتاب:
"الأغاني التي كانت تعبر عن الحب للأرض والطبيعة أخذت أشكالاً مختلفة، فالأصوات الصاخبة للقوافل التجارية والاحتفالات الكبرى في المدن الرئيسية مثل مأرب وسبأ أضافت إلى عمق الموسيقى."
كما يُبرز الكتاب دور المناطق الجنوبية، مثل عدن وحضرموت ولحج، في إثراء التراث الغنائي اليمني، حيث امتزجت الألحان المحلية بتأثيرات إفريقية وهندية عبر التجارة البحرية. وتُعد "العدنيات" – الأغاني العدنية – مثالًا على هذا التمازج، فعلى سبيل المثال، خلال الفترة الاستعمارية البريطانية، تم تطوير عدن كمركز حضري جديد، مما أتاح للموسيقيين اليمنيين تطوير أنماط موسيقية حديثة ومزجها مع التراث المحلي."
أيضاً يسلط الكتاب الضوء على انتقال الفن الغنائي من الجنوب إلى الشمال عبر الهجرات والتجارة، وكيف أضفت الألحان الجنوبية حيويةً على الموسيقى الشمالية التقليدية، فالأغاني الجنوبية معروفة بإيقاعاتها الحيوية واستخدام الآلات الحديثة مثل الجيتار والأكورديون، وهو ما أضفى طابعًا جديدًا على الموسيقى الشمالية."
لا يقتصر دور الموسيقى في اليمن على الترفيه، بل كان وسيلةً للمقاومة والتعبير عن الهوية، فتاريخ اليمن مليء بالصراعات والنضال من أجل الحرية، والموسيقى كانت دائمًا وسيلة للتعبير عن هذه المقاومة. الأغاني الوطنية والشعبية كانت تشجع الشعب على الصمود."
كما يخصص الكتاب جزءًا مهما لأسطوانات الأغاني المسجلة، التي حفظت تراثًا غنائيا قد يندثر، حيث يذكر أن إسطوانات الأغاني المسجلة لأهم فناني التراث اليمني تُعد كنوزًا صوتية توثق مراحل تطور الفن الغنائي."
يختتم الكتاب بدعوة للحفاظ على هذا التراث الغني في ظل التحديات الحديثة، مثل العولمة والنزاعات، مؤكدا أن الموسيقى اليمنية ليست مجرد فن، بل هي روح الشعب اليمني وتاريخه النابض.
التراث الغنائي اليمني" ليس كتابًا للمتخصصين فحسب، بل هو إرثٌ لكل يمنيٍّ يحمل في قلبه حبًا لأغانيه وألحانه، ولكل عربيٍّ يريد أن يعرف عمق الثقافة اليمنية التي صنعت تاريخًا موسيقيًا فريدًا.