تطرق الرئيس علي ناصر محمد في الحديث السابق عن رفض نظام صنعاء للوحدة اليمنية .. وفي هذا اللقاء يكشف الرئيس ناصر عن رفض دولة الاتحاد السوفييتي لتوحيد اليمن .. نترك المجال للرئيس حول ما أكده في حديثه حيث قال :" كان قد سبق حرب فبراير 1979م وصول آلاف السيارات من الشمال، وعليها عشرات الآلاف من المشايخ والقبائل، في طريقهم إلى عدن، دعماً لموقفها.
خرجت الجماهير للترحيب بقدومهم منذ مغادرتهم العبر (التي تقع بالقرب زمخ ومنوخ والوديعة بأعالي وادي حضرموت على مشارف الربع الخالي) حتى وصولهم الى مدينة عدن التي احتضنتهم كما احتضنت آلاف اليمنيين القادمين من كل المدن اليمنية في كل مراحل التاريخ، وفي مقدمتهم أحمد محمد النعمان، ومحمد ومحمود الزبيري، وسيف الحق إبراهيم بن يحيى حميد الدين، وزيد الموشكي، وأحمد محمد الشامي وغيرهم، ونُظِّم مهرجان جماهيري ضخم طالبوا فيه بتحقيق الوحدة اليمنية،
وقد قدّمت عدن الأموال والسلاح إلى هؤلاء الذين قدموا إليها للالتحاق بالجبهة الوطنية والنضال من أجل إسقاط النظام في الشمال، وفتحت معسكرات للتدريب، وكانت الجبهة وقتذاك تسيطر على مناطق شمالية واسعة شاسعة يزيد عدد سكانها على سكان الجنوب. يجب أن نعترف بأنّ جزءاً من المال والسلاح ذهب إلى جيوب البعض، ولم يُحقق الهدف الذي صُرف من أجله.
وكان الأهم من كل ذلك بالنسبة إليّ أن أُولي اهتماماً خاصاً بأبناء هذه المناطق الشمالية التي اكتوت بالحروب وحُرمت التعليم، ولهذا شجعنا أبناءهم على الالتحاق بمدارس البدو الرُّحل وشتى المدارس بمختلف مستوياتها في المحافظات والالتحاق بالجامعة. وخوفاً من أن يتسرب بعضهم ويعودوا إلى مناطقهم، أرسلنا المئات منهم في بعثات إلى الخارج، وتحديداً إلى كوبا التي يصعب العودة منها حتى تخرّجهم وعودتهم للالتحاق بمناطقهم كأطباء ومدرسين وغير ذلك. ومن هؤلاء مَن التحق بالكليات العسكرية، وكانوا من مناطق شمال شمال اليمن المعزولة والمحرومة التعليم، والتي كانت تعاني من الفقر والجهل والمرض. هذه المناطق التي صُنفت في الشمال بـ"المناطق المحرومة"، لم يُلتفَت إلى تخلّفها الشامل إلا في السنوات الأخيرة من حكم صالح، وقد مُنح أبناؤها أفضلية نسبية في الالتحاق بالتعليم الجامعي، ولكن الأمر توقف عند هذا الحد، ولم يتجاوزه إلى الخدمات الأخرى من صحة وتعليم وخلق فرص عمل وإدارة رشيدة.
شهادة جار الله عمر عن حرب 1979
ويواصل الرئيس ناصر حديثه قائلاً:" نورد في هذا اللقاء شهادة جار الله عمر عن حرب 1979 كما وردت في المقابلة التي أجرتها معه أ. د. ليزا ودين، أستاذة العلوم السياسية ورئيسة قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعو شيكاغو:
كان وصول القبائل إلى عدن حدثاً تاريخيّاً بارزاً، لأنّ قبائل شمال الشمال، قبل أن يحدث هذا التطوّر، كان لديها موقف منخفض إزاء النّظام الاشتراكي أو النّظام القائم في عدن. وكانت الدعايات ضدّ هذا النّظام تؤثّر كثيراً في رؤية النّاس له، وبوصول هؤلاء المواطنين إلى عدن تغيّرت وجهة نظرهم نحو النّظام القائم فيها، ما غيّر موازين القوى في الساحة اليمنيّة. وعلى إثر ذلك، أُعيد تشكيل الجبهة الوطنيّة الدّيمقراطيّة التي كانت تعارض النّظام القائم في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة من جديد، وانضمّ إليها المعارضون الجدد الذين كان من ضمنهم ناصريّون ومجاهد القهالي. بعد وصولهم إلى عدن، اشتدّت الحرب الإعلاميّة بين النّظامين في الشمال والجنوب، واضطربت الأوضاع من جديد، وتفاقمت لتصل إلى حرب شباط/ فبراير ١٩٧٩ التي شارك فيها الجيش في الجنوب وأفراد المقاومة المسلّحة في المناطق الوسطى ومن شمال الشّمال. وطبعاً، انتصر الجيش الجنوبيّ مع الجبهة الوطنيّة وفصائل المقاومة، وتمكّنوا من الاستيلاء على مناطق واسعة في الشّمال، وهُزم الجيش الشماليّ وتشتّت شمله في الشّمال، وأصبحت الطرق سالكةً إلى صنعاء. لكنْ حدَثَ ما يشبه التدخّل الإقليميّ والدوليّ الرّافض لنتائج الحرب في أيّامها الأولى، ووقفت جميع الدّول الإقليميّة والعربيّة والدوليّة إلى جانب حكومة علي عبد الله صالح في صنعاء. واتّخذت جامعة الدول العربيّة قراراً بوقف إطلاق النّار وأدّت المملكة العربيّة السعوديّة والعراق وسورية دوراً في اتخاذ ذلك القرار. واستعدّ الجيش العراقيّ والجيش السوريّ للتدخل، حيث كانت الحكومتان العراقيّة والسورية على وئام في تلك المرحلة، وفُرض قرار وقف إطلاق النّار والحيلولة دون هزيمة الشّمال، وانتصار الجنوب في المعركة. وعملت الولايات المتّحدة الأميركيّة، بطلب وتمويل من السعوديّة، على إرسال السّلاح والمعدّات والذّخائر إلى صنعاء على وجه السّرعة، ودفعت السعوديّة ثمن الصفقة. لكنّ الموقف الأكثر مفاجأةً وتأثيراً في مجرى الأحداث، كان الموقف السوفياتي، حيث أرسلت القيادة السوفياتيّة في موسكو إنذاراً سريعاً إلى حكومة عدن يطالبها بإيقاف إطلاق النّار فوراً، وأبلغت موسكو حكومة عدن أنّ القيادة السوفياتيّة تعارض بقوّة إسقاط حكومة صنعاء. لماذا؟ على اعتبار أنّ ذلك يهدّد السّلام العالميّ. ويبدو أنْ كان هناك تفاهم بين الاتّحاد السوفياتي وأميركا على ضمان استمرار الأوضاع القائمة في اليمن كما كانت عليه، وأنّ ذلك فرضٌ للتّفاهم، لأنّ الشّمال كان منطقة نفوذ غربيّة، والجنوب كان منطقة نفوذ شرقيّة، ولا بدّ من الحفاظ على الوضع القائم وإعادته إلى ما كان عليه. وقد أشفعت القيادة السوفياتيّة موقفها بموقف عمليّ تَمثّل بوقف تزويد جيش الجنوب فوراً. ولمّا كان الاتّحاد السوفياتيّ هو المصدر الوحيد لتسليح الجيش الجنوبيّ، كان لهذا الضّغط تأثير حاسم في مجرى الحرب، خصوصاً بعدما نفدت الذخائر، ولا سيما قذائف المدفعيّة والطيران التي فرغت منها مخازن الجيش في الجنوب، وليس من مصدرٍ لتعويض ما نفد من الاتحاد السوفياتيّ. وكان الموقف السوفياتيّ مؤثّراً في الدّول الأخرى، مثل كوبا وألمانيا الشرقيّة والصّين، فالتزمته. وكان اتفاق الأميركان والرّوس قد أثّر في الصّين وغيرها، وكان للصّين سياسة خاصّة «لا مع السّوفيات، ولا مع أميركا». ويبدو أنّ الأميركان أبلغوا السّوفيات أنّه في حال استمرار الحرب وعدم توقّف زحف الجيش الجنوبيّ نحو الشّمال، فإنّ هذا سيقود إلى صراع بين القوّتين، وأنّ هذا خرق للتّفاهم بينهما.
أمّا عدم تواصُل القيادة الجنوبيّة مع الاتّحاد السوفياتيّ قبل الحرب، فيعود إلى أنّها كانت تخشى، بل كانت تعرف أنّ السّوفيات سيعارضون الحملة العسكريّة، لكونهم ملتزمين بقاءَ نظامين في اليمن. بل كان السوفيات يعارضون حتّى نضال الجبهة الوطنيّة. ولهذا لجأت القيادة في عدن إلى وضع السّوفيات أمام الأمر الواقع، لكن لم تُفلح، فقد اتّخذ السّوفيات قراراً حاسماً لا رجعة عنه. وزاد في الطّين بلّة، أنّ فروع الأحزاب المدنيّة في الشّمال كانت تعمل على عقْد مؤتمرات لتوحيد نفسها، وكانت قياداتها وأعضاؤها يتعرضون للاعتقالات. وهذا ما أربك فصائل المعارضة، ولا سيما أجنحتها المدنيّة.
الموقف السوفياتي
واضاف الرئيس ناصر في حديثه :" في ذلك الوقت، اجتمعت القيادة السياسيّة والعسكرية في الجنوب بقيادة الأمين العامّ عبد الفتاح إسماعيل، بحضور علي ناصر محمد وعلي عنتر وصالح مصلح، أبرز القادة. وحضرتُ أنا أيضاً. أبلغنا عبد الفتاح بالتّطوّرات السياسيّة وبالموقف السوفياتي والعربي، واقترح على المجتمعين أن تقبل الدولة في الجنوب بوقف إطلاق النّار، في موقف لا رجعة عنه، والتّفاوض على مرحلة ما بعد الحرب. وهنا انقسم المجتمعون بين مـؤيّد ومعارض، وكنت أنا من بين المعارضين لوقف إطلاق النار، وهو الموقف الذي اتّخذه أيضاً ممثلو الجبهة الوطنيّة الديمقراطية والمقاتلون في الشّمال. أمّا القادة الجنوبيّون، فممّن اعترض منهم على الاقتراح، الشهيد علي عنتر الذي كان وزير الدفاع حينها، ووزير الداخليّة صالح مصلح قاسم وبعض القادة العسكريّين. لكنّ عبد الفتّاح حصل على تأييد باقي أعضاء المكتب السياسيّ من المدنيّين في الجنوب، وعندما اضطرب الموقف سُئل مسؤولو التّموين في الجنوب عمّا إذا كان لديهم ذخائر، فكان الجواب أنّ الذخائر قد نفدت! وتحت إلحاح عبد الفتّاح الذي كان رئيس مجلس الرئاسة والأمين العامّ للحزب، وافق المجتمعون على مقترح وقف إطلاق النّار. عارضتُ القرار واعتبرته نكسةً خطيرة، بل أُصبت بالإحباط. لكنّ الواضح أنّ المنطق وحسابات المعركة المادّية والمنطقيّة كانت تقف إلى جانب عبد الفتاح إسماعيل والقيادة المدنيّة، وأنّ البديل الوحيد لتجنّب هزيمة عسكرية هو القبول بالضّغط الدولي والعربي لوقف إطلاق النّار.
إقالة عبد الفتاح واستقالته
وزاد الرئيس ناصر قائلاً:" في المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي اليمني عام 1978م، اتُّخذ قرار يقضي بعقد مؤتمر استثنائي بعد سنتين، توحّد فيه "الأداة" ــ الحزب السياسي ــ ليضمّ اليمن شمالاً وجنوباً (وقد توحدت فيما بعد في عام 1979م)، بعد أن يصار إلى إقصاء بعض العناصر القياديين: علي ناصر محمد، علي عنتر، صالح مصلح، ومجموعة "سالمين" التي ظلت حبيسة السجن دون محاكمة، وقد نقل إليّ هذه المعلومات لاحقاً عضو اللجنة المركزية للحزب عبد الله الخامري، الذي وُعد بترقيته إلى عضوية المكتب السياسي، وحين لم يفعلوا ذلك أفشى لي ولعلي عنتر ولصالح مصلح هذه المعلومات، وكان ردّ فعل علي عنتر عليها غاضباً وعنيفاً، وبدأ يحرّض في المعسكرات والمحافظات ويطالب بمحاسبة عبد الفتاح على هذا الكلام الذي أدى بالفعل إلى أزمة ثقة داخل القيادة، وحينها كنت في زيارة للاتحاد السوفياتي، وكان معي في هذه الزيارة صالح مصلح قاسم، وعبد العزيز عبد الولي، ومحمود عشيش، وعندما علمنا بهذه التطورات عدنا إلى عدن من أجل احتواء هذه الأزمة، ولكن عبد الفتاح لم يتحمل مثل هذه الموجة من الاحتجاجات والانتقادات، وبلغت الأزمة ذروتها لمحاسبته ومحاسبة الذين شاركوا معه في اتخاذ قرار إقصاء بعض القيادات في المؤتمر الاستثنائي للحزب الاشتراكي اليمني الموحَّد. كان ردّ فعل عبد الفتاح هو الاستقالة، ورغم جهودنا مع كافة الأطراف لثنيه عنها، إلا أنّ عبد الفتاح أصرّ على الاستقالة والسفر إلى موسكو، فبقي فيها خمس سنوات، وقد ذكرنا في مكان آخر من هذه المذكرات ظروف خروجه وعودته التي لقي فيها حتفه مع قياديين آخرين للأسف الشديد في أحداث كانون الثاني/ يناير 1986م.
( للحديث بقية)