على مدار السنوات الأخيرة، عانى الاقتصاد اليمني من تدهور غير مسبوق نتيجة عوامل متعددة، من بينها الحرب والصراعات الداخلية، ومع هذا الوضع الهش، ظهرت ظاهرة تصدير المواد الخام، مثل الحديد والنحاس والبلاستيك، كواجهة لتهريب العملة الصعبة إلى الخارج، وهذه الممارسات لا تُعدّ مجرد تجارة عادية، بل هي منظومة متكاملة تهدف إلى استنزاف موارد البلاد المالية وإضعاف البنية التحتية، ما يشكّل تهديدًا خطيرًا للاقتصاد الوطني.
الربط بين تجارة الخردة وتهريب الأموال
في ظل القيود الصارمة التي فرضتها الحكومة اليمنية على التحويلات المالية لوقف تدفق العملة الصعبة إلى الخارج، ابتكر مهربو الأموال أساليب ملتوية لتحقيق أهدافهم، أحد هذه الأساليب هو ضخ الأموال المراد تهريبها في سوق الخردة، حيث يقوم المهربون بالتنسيق مع تجار محليين لشراء كميات كبيرة من المواد الخام مثل الحديد والنحاس بأسعار مبالغ فيها، ويتم بعد ذلك تصدير هذه المواد إلى دول مثل الهند وباكستان، حيث تُباع هناك، ويتم تحويل عائدات البيع إلى حسابات مصرفية في الخارج.
التأثير السلبي على الاقتصاد الوطني
وتحمل ظاهرة تصدير المواد الخام تداعيات اقتصادية كارثية، أولًا، يؤدي هذا التهريب إلى انخفاض حاد في قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية بسبب زيادة الطلب على الدولار وغيره من العملات الصعبة، ثانيًا، تصدير هذه المواد يحرم الاقتصاد المحلي من موارد أساسية كان من الممكن استغلالها في مشاريع صناعية وإعادة التدوير.
وعلى سبيل المثال، تعاني المصانع المحلية التي تعتمد على الحديد والنحاس كمواد أولية من ارتفاع أسعارها نتيجة المضاربة عليها من قبل تجار الخردة، وهذا يجعل تكلفة الإنتاج مرتفعة للغاية، ويؤدي إلى ضعف التنافسية المحلية، وزيادة الاعتماد على الاستيراد من الخارج بأسعار أعلى، مما يفاقم من أزمة العملة الصعبة.
سرقة البنية التحتية وتحويلها إلى خردة
ويمثل تصدير خردة النحاس مشكلة خطيرة تتعدى الجوانب الاقتصادية، لتصل إلى تدمير البنية التحتية الوطنية، مع ارتفاع الطلب على النحاس في السوق السوداء، أصبحت كابلات الكهرباء، وأعمدة الإنارة، والمباني غير المأهولة هدفًا لعمليات السرقة، والذي يتم نزع الكابلات من أماكنها، وحرقها لإزالة الغلاف الخارجي، ومن ثم كبسها وتحويلها إلى خردة تُصدر إلى الخارج.
ونتيجة لهذه الممارسات، تعاني البلاد من انقطاعات متكررة في الكهرباء وضعف الخدمات العامة، حيث تُسرق معدات حيوية مخصصة لخدمة المواطنين.
مقارنة مع الدول الأخرى
في حين أن اليمن يعاني من استنزاف موارده بسبب تصدير المواد الخام، فإن دولًا أخرى أدركت منذ فترة طويلة الأضرار الناجمة عن هذا النشاط، ومعظم الدول العربية، مثل السعودية وعمان ومصر، فرضت حظرًا صارمًا على تصدير الخردة، مع التركيز على تعزيز الصناعات المحلية والاستفادة من المواد الخام في الداخل.
حتى الدول التي تستورد الخردة، مثل الهند وباكستان، تمنع تصدير هذه المواد لديها، لأنها تُعتبر أصولًا حيوية للصناعات المحلية وهذا يوضح الفرق بين السياسات الاقتصادية الموجهة نحو تعزيز النمو الداخلي، والسياسات التي تترك المجال مفتوحًا لاستنزاف الموارد.
القرارات الحكومية والتحديات
في اليمن، كانت هناك محاولات حكومية للسيطرة على هذه الظاهرة، في أوائل الألفينيات، أُصدرت قرارات بمنع تصدير الخردة، لكن مع تصاعد الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، أصبحت هذه الظاهرة أكثر انتشارًا.
وفي أكتوبر 2024، أصدرت الحكومة اليمنية سلسلة من القرارات والتوجيهات المشددة لمنع تصدير الخردة بكافة أنواعها، شملت هذه القرارات توجيهات للمنافذ الجمركية والموانئ بوقف أي شحنات تحتوي على مواد خام قابلة للتصدير، حيث قوبلت هذه الخطوة بإشادة من خبراء الاقتصاد، الذين اعتبروها خطوة في الاتجاه الصحيح لتخفيف الضغط على الاقتصاد الوطني.
الحلول المقترحة
وحتى يجرى توقف الزيف الاقتصادي الوطني يجب اتخاذ خطوات عاجلة ومستدامة لمعالجة هذه المشكلة كتعزيز الرقابة على المنافذ، ودعم الصناعات المحلية، وتشديد العقوبات، كذلك التعاون الإقليمي والدولي، ونشر الوعي بين المواطنين حول خطورة بيع الخردة وخاصة المسروقة منها، وتشجيعهم على الإبلاغ عن أي أنشطة مشبوهة.
ويعد تصدير المواد الخام في اليمن ليس مجرد نشاط اقتصادي بسيط، بل هو تهديد شامل يمس الاقتصاد والبنية التحتية والخدمات العامة، إذا استمرت هذه الظاهرة دون رادع، فإن عواقبها ستكون وخيمة على الاقتصاد الوطني ومستقبل الأجيال القادمة.