يقاوم أيغد دموعه عند النظر إلى صورة والده، لكن الحزن يغلبه، فالجرح لم يلتئم بعد. في الصورة التي التقطت قبل خمس سنوات، ترتسم على وجه والده ابتسامة عريضة وهو محاط بأشجار الزيتون في أرضهم الزراعية التي أجبروا لاحقاً على مغادرتها.
"غادرنا غصباً عن إرادتنا بسبب الحرب وقصف الطيران، والدي كان يرفض المغادرة ويقول إنه يريد أن يموت في أرضه لكنني أجبرته على الرحيل" يخبرني أيغد عن تلك المرحلة بحرقة "بقينا في البرية عشرة أيام على أمل أن نعود لكن الأمل تأخر خمس سنوات"، بحسب أيغد.
مع انسحاب قوات النظام السابق من قرية داديخ في ريف سراقب في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، تحقق حلم أيغد ووالده بالعودة إلى أرضهما، "من شدة الفرحة لم أستطع الوقوف، والدي الذي بكى عندما غادرنا أرضنا بدأ بالبكاء عندما أخبرته أنها تحررت".
لكن حلم العودة سرعان ما تحول إلى كابوس، "ذهبنا لزيارة الأرض في سيارتين منفصلتين، وعند المغادرة حذرته من الذهاب في الطريق الذي اختاره للعودة إلى إدلب، لكنه أصر على اختياره وخلال السير انفجر لغم وقتل على الفور".
أيغد لم يخسر والده فحسب، بل خسر أيضاً باب رزقه الذي حرم منه خمس سنوات. أرضه التي تقارب مسحتها المئة دونم، كانت مزروعة بأشجار زيتون يصل عمرها إلى خمسين عاماً، "الأرض باتت محروقة وموحشة، لا أثر للزيتون، الشجر إما يبس أو اقتلع، والآن لا نستطيع الدخول بسبب الألغام".
* خطر جسيم على المدنيين
والد أيغد واحد من عشرات الضحايا الذين إما قتلوا أو أصيبوا بألغام وذخائر غير منفجرة في سوريا.
وثقت منظمة "ذا هالو ترست" المتخصصة في إزالة الألغام، مقتل 80 شخصا على الأقل، من بينهم 12 طفلا في الفترة بين 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 و7 يناير/كانون الثاني 2025.
مخلفات الحرب تشكل خطراً حقيقياً على السوريين في مختلف مناطق البلاد، وهي تنقسم إلى نوعين: الأول هو ذخائر غير منفجرة مثل القنابل والصواريخ، أما النوع الثاني فهو الألغام الأرضية.
حسن الطلفاح مدير مركز إزالة الذخائر في الدفاع المدني السوري في إدلب يوضح أن النوع الأول يكون أسهل في الإزالة والتجنب بسبب إمكانية رؤيته نظراً لوجوده عادة فوق سطح الأرض.
تقول فرق الدفاع المدني السوري، المعرفة بالخوذ البيضاء، إنها نفذت 822 عملية إتلاف لذخائر غير منفجرة في شمال غربي سوريا بين 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 و 3 يناير/كانون الثاني 2025.
التحدي الأكبر، وفقا لحسن، يكمن في النوع الثاني - الألغام الأرضية. ويوضح أن قوات الحكومة السورية زرعت مئات الآلاف من الألغام في مختلف المناطق في سوريا، خاصة في الأراضي الزراعية.
للتحقق بأنفسنا من حجم المشكلة، ذهبنا مع حسن وفريقه إلى حقلين كبيرين مليئين بالألغام. مررنا بطريق ترابي طويل وضيق ومتعرج، كان الطريق الآمن الوحيد للوصول إلى الحقلين. على جانبي الطريق، رأينا أطفالاً يركضون في المنطقة، وأخبرنا حسن أنهم من عائلات عادت مؤخراً، لكن خطر الألغام يحيط بهم.
عندما نزلنا من السيارة، أشار حسن إلى ساتر ترابي "هذا كان آخر نقطة تفصل بين المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية وتلك التي تسيطر عليها جماعات المعارضة".
قبل الحرب، كانت الحقول المحيطة بالمنطقة أراض زراعية مثمرة. اليوم، أصبحت قاحلة تماما، وبدلا من الأشجار والأعشاب بدت ممتلئة بالألغام.
من دون الخبرة اللازمة لكشف وإزالة الألغام، فإن كل ما يمكن للخوذ البيضاء فعله حاليا هو تطويق هذه الحقول ووضع لافتات تحذيرية حولها لمنع المدنيين من الاقتراب
في طريق عودتنا، صادفنا مزارعاً كان قد عاد مؤخراً، أخبرنا أن بعض الأراضي تعود لعائلته "لم نتمكن من التعرف على أي شيء منها" أخبرنا محمد، "كنا نزرع القمح والشعير والكمون والقطن. الآن لا يمكننا فعل أي شيء. وطالما لا يمكننا زراعة هذه الأراضي، سنظل في وضع اقتصادي سيء".
* مئات الآلاف من مخلفات الحرب
تقول الخوذ البيضاء إنها حددت نحو 117 حقل ألغام في شهر واحد فقط.
حتى الآن لا يوجد أي أرقام أو إحصائيات دقيقة لعدد ومناطق انتشار مخلفات الحرب، لكن منظمات دولية مختصة في إزالة الألغام، مثل منظمة "ذا هالو ترست"، تقوم برسم خرائط تقديرية لأماكن وجودها.
وبحسب داميان أوبراين، مدير مشروع سوريا في المنظمة، فإن البلاد بحاجة لمسح شامل لمعرفة مدى انتشار هذه المخلفات، لكنه يقدر ضرورة إزالة نحو مليون قطعة ذخيرة لحماية المدنيين. "في أي مكان كان فيه موقع للجيش السوري، من المحتمل أن تكون أنواع من الألغام وضعت حوله كوسيلة دفاعية. في حمص وحماة، هناك أحياء بأكملها تم تدميرها بشكل شبه كامل. وأي شخص يدخل إلى هذه المباني لتقييمها سواء للهدم أو لإعادة الإعمار يجب أن يكون على دراية بأنه قد تكون هناك ذخائر غير منفجرة داخلها".
* خرائط متروكة لأماكن انتشار الألغام
للمساعدة في جهود إزالة الألغام في سوريا، عثرت منظمة الخوذ البيضاء على كنز ثمين.
في مكتبهم بمدينة إدلب، أراني حسن مجموعة من الخرائط والوثائق التي تركتها قوات النظام السابق في المقار الرسمية، وتظهر مواقع وأعداد وأنواع الألغام المزروعة في حقول مختلفة في شمال غرب سوريا.
"سنسلم هذه الوثائق إلى الجهات التي ستتعامل مع الألغام الأرضية بشكل مباشر" يؤكد حسن.
الإمكانيات والخبرات الموجودة في سوريا في الوقت الحالي لا تبدو كافية للتعامل مع حجم المخاطر التي تفرضها مخلفات الحرب. على الرغم من عمل عدة جهات ومنظمات على إزالة الألغام، يغيب التنسيق بينها.
يشدد أوبراين على ضرورة عمل المجتمع الدولي مع الحكومة الجديدة والتنسيق لتطوير قطاع إزالة الألغام، ويقول: "ما نحتاجه من المانحين الرئيسيين لبرامج إزالة الألغام هو التمويل لتوسيع قدرتنا، وهذا يعني توظيف المزيد من الأشخاص، وشراء المزيد من المعدات، والعمل في مناطق أوسع".
يقدر أوبراين أنه في حال توفر المستوى المناسب للدعم فمن الممكن تطهير سوريا من الألغام في غضون عشر سنوات. لكن إلى حين تضافر الجهود الدولية والمحلية، تبقى أرواح العديد من المدنيين وخاصة الأطفال معرضة للخطر.
بالنسبة لحسن، أصبحت إزالة الذخائر غير المنفجرة والتوعية بمخاطرها مهمة شخصية. قبل عشر سنوات، فقد ساقه أثناء محاولته إزالة قنبلة عنقودية.
يقول إن إصابته وجميع الحوادث المفجعة التي شهدها والتي أثرت على الأطفال والمدنيين بسبب مخلفات الحرب، زادت من إصراره على مواصلة العمل في هذا المجال.
"لا أريد لأي مدني أو زميل في الفريق أن يمر بما مررت به،" يقول حسن "لا أستطيع وصف الشعور الذي ينتابني عندما أزيل خطرا يهدد حياة المدنيين"، بحسب الطلفاح.
لكن إلى حين تضافر الجهود الدولية والمحلية بشكل كاف لتحييد خطر مخلفات الحرب، تبقى أرواح العديد من المدنيين، وخاصة الأطفال، معرضة للخطر.