تتداخل روعة الطبيعة وسحر البحر مع كفاح الإنسان وعراقة المهن التقليدية، إذ يمارس سكان المناطق الساحلية في اليمن حرفة الصيد التقليدية الموسمية التي ورثوها عبر الأجيال. تسعى هذه الحرفة إلى تأمين لقمة العيش وسط التحديات الاقتصادية الصعبة التي تعصف بالبلاد.
في موسم "صيد الوزف"، الذي يقام مرتين سنوياً خلال ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني)، وأبريل (نيسان) ومايو (أيار)، يخرج عشرات الصيادين إلى شواطئ المدينة لصيد الأسماك الموسمية الصغيرة جداً. تُجفف هذه الأسماك على رمال الساحل في مشهد يعكس ارتباط الإنسان بالطبيعة والموروث الشعبي.
تقاليد عريقة
على شواطئ مدينة الخوخة يشهد البحر حركة نشطة مع انطلاق الصيادين لرمي شباكهم الكبيرة قرب الساحل. هناك تتجمع أسراب الأسماك الصغيرة التي تظهر كغيوم داكنة تدفعها الأمواج نحو اليابسة. تسحب الشباك بطريقة دائرية بواسطة القوارب على مسافة تقدر بـ30 متراً داخل المياه، وعند امتلائها تسحب إلى الشاطئ حيث تبدأ عملية فرز الأسماك وتنظيفها من الشوائب. يُركز على اختيار الأسماك الصغيرة جداً في هذه العملية التي تعتمد بصورة أساس على العمل الجماعي والتعاون بين الصيادين.
تجفيف الأسماك: تقنيات تقليدية بسيطة
بعد عملية الفرز يبدأ الصيادون بتجفيف الأسماك الصغيرة جداً باستخدام وسائل بدائية. تنقل الأسماك إلى مناطق مكشوفة تسمى "الصنداية"، حيث تفرش مباشرة على رمال الشاطئ. هناك تتعرض الأسماك لأشعة الشمس لمدة 10 ساعات يومياً، تبدأ من السابعة صباحاً وحتى الخامسة مساءً. وفي نهاية اليوم تجمع الكميات المجففة وتعبأ في أكياس تباع في الأسواق المحلية.
غذاء مستدام
الوزف المجفف، الذي يراوح طوله ما بين أربعة وستة سنتيمترات، يعد من المنتجات البحرية المميزة التي يمكن تخزينها لفترات طويلة، مما يجعله مصدراً مستداماً للدخل والغذاء.
أنواع الوزف وأسعاره
وفقاً للصياد وتاجر الوزف محمد علي سيف، يصنف الوزف إلى ثلاثة أنواع: الجاسر (الحجم الكبير)، والمثلوث (الحجم المتوسط)، والدقلة (الحجم الصغير)، الذي يعد الأعلى جودة. يبلغ سعر كيس الوزف الدقلة، الذي يزن 50 كيلوغراماً، نحو 200 ألف ريال يمني، أي ما يعادل 90 دولاراً أميركياً، وفقاً لسعر الصرف في مناطق الشرعية اليمنية.
مصدر رزق موسمي
يعتبر صيد الوزف الموسمي مصدراً رئيساً للدخل لمئات الصيادين اليمنيين على طول الساحل الغربي، إذ يوفر لهم بديلاً عن الإبحار في عمق البحر، بخاصة في ظل تصاعد التهديدات العسكرية في البحر الأحمر، إضافة إلى ذلك يتميز صيد الوزف بانخفاض الكلف التشغيلية مقارنة بصيد الأسماك الأخرى، نظراً إلى أن العملية تجرى قرب الشاطئ.
ومع ذلك أشار الصياد عبده مكين إلى محدودية العائد من هذا النشاط، موضحاً "ما نحصل عليه خلال موسم كامل من أربعة إلى خمسة شوالات لا يكفي لتلبية حاجات أسرتي طوال العام".
طرق تقليدية وعوائق الإنتاج
على رغم أهمية الوزف كمنتج بحري، فإن عملية تجفيفه لا تزال تعتمد على طرق تقليدية بدائية، مما يؤدي إلى اختلاطه بالرمال والحصى. هذه التحديات تبرز الحاجة إلى تطوير وسائل التنقية والتجهيز والتسويق لتحسين جودة المنتج وزيادة كفاءته.
تصدير الوزف: تاريخ وفرص
شهد الوزف اليمني فترة تصدير نشطة في الثمانينيات والتسعينيات إلى دول مثل ماليزيا وكينيا، حيث كان يباع كيس وزنه 30 كيلوغراماً بـ5 آلاف ريال يمني (ما يعادل ثلاثة دولارات أميركية)، لكن الأوضاع الاقتصادية الراهنة أدت إلى ارتفاع سعره بصورة كبيرة ليصل إلى 100 ألف ريال يمني (ما يعادل 45 دولاراً أميركياً). اليوم يتوافر صيد الوزف في سواحل الساحل الغربي وخليج عدن ورأس العارة في لحج، وشقرة وأحور في أبين.
وجبة الفقراء
مع تدهور الأوضاع المعيشية أصبح الوزف المجفف خياراً غذائياً رئيساً لآلاف الأسر اليمنية، خصوصاً في المناطق الساحلية. لا تكاد تخلو مائدة شعبية منه، إذ يستخدم كوجبة مستقلة أو يضاف كبهارات لأكلات تقليدية مثل العصيد.
على رغم أهمية حرفة صيد الوزف وتجفيفه في تحسين الظروف المعيشية لمئات الأسر، فإن الأزمة الإنسانية في اليمن، التي تعد من بين الأكثر تعقيداً عالمياً، تلقي بظلالها على هذه الحرفة. يحتاج أكثر من 21 مليون شخص إلى المساعدات الإنسانية، بينهم 9 ملايين مهددون بالمجاعة، معظمهم من النساء والأطفال، مما يجعل تحسين الظروف المعيشية للصيادين تحدياً كبيراً في ظل هذه الأوضاع الصعبة.